اخبار جنين

الوضع الاقتصادي في محافظة جنين: اقتصاد تحت الحصار وتراجع متعدد المستويات

طارق سويطات

تُعدّ محافظة جنين واحدة من أكثر محافظات الضفة الغربية تأثراً بالتحولات السياسية والأمنية المتسارعة، الأمر الذي انعكس بصورة مباشرة وعميقة على واقعها الاقتصادي. فقد دخل اقتصاد المحافظة خلال العام الأخير مرحلة تراجع حاد، نتيجة تداخل عوامل بنيوية قديمة مع مستجدات قاسية فرضها الواقع الأمني والحصار المشدد وانقطاع مصادر الدخل الأساسية.

عمال الداخل: الرافد الأكبر الذي انقطع

لطالما شكّل العمال الفلسطينيون العاملون داخل الخط الأخضر الرافد النقدي الأهم لاقتصاد مدينة جنين وقراها. فآلاف العائلات كانت تعتمد بشكل شبه كامل على الدخل القادم من هذه الفئة، ليس فقط لتأمين احتياجاتها اليومية، بل لتحريك عجلة السوق المحلي من تجارة وخدمات وبناء.

اليوم، ومع منع العمال من التوجه إلى أماكن عملهم، فقد الاقتصاد المحلي أحد أعمدته الأساسية. هذا الانقطاع المفاجئ أدّى إلى تراجع السيولة النقدية في الأسواق، وانخفاض القدرة الشرائية، وتعثر واسع في قطاعات التجزئة، والمطاعم، والمهن الحرة، وحتى المشاريع الصغيرة التي كانت تعتمد على دورة نقد يومية نشطة.

الحوالات المالية من الخارج: مورد يواجه اختناقاً إجرائياً

إلى جانب دخل العمال، كانت الحوالات المالية من فلسطينيي الشتات تشكّل شبكة أمان مهمة لعدد كبير من العائلات، خاصة في فترات الأزمات. إلا أن هذه الحوالات باتت اليوم تواجه صعوبات كبيرة، سواء من حيث الإجراءات البنكية المعقدة، أو القيود المفروضة على التحويلات، أو ارتفاع الكلف والعمولات، ما قلّص من قيمتها الفعلية وأضعف دورها كرافد اقتصادي.

هذا التعقيد حرم شريحة واسعة من العائلات من مصدر دعم كان يُخفف نسبياً من آثار البطالة وانقطاع الدخل، وعمّق حالة العجز المالي على المستوى الأسري.

فلسطينيّو الداخل: تراجع الحضور وتأثيره على السوق

شكّل فلسطينيو الداخل تاريخياً عنصراً مهماً في دعم اقتصاد جنين، سواء من خلال التسوق، أو الاستثمار الفردي، أو الحركة التجارية في المدينة، خصوصاً في المواسم والأعياد. إلا أن الحصار والإجراءات الأمنية المشددة قلّصت حضورهم إلى حد كبير، ما انعكس مباشرة على قطاعات التجارة والخدمات والسياحة الداخلية.

غياب هذه الحركة أدى إلى ركود ملحوظ في الأسواق، وأفقد العديد من التجار مورداً كان يعوّض نسبياً ضعف الطلب المحلي.

الحالة الأمنية: بيئة طاردة للاستثمار والاستقرار

لا يمكن فصل التدهور الاقتصادي في جنين عن الحالة الأمنية المستمرة في المدينة والمخيم والقرى المحيطة. فالاقتحامات المتكررة، وحالة عدم الاستقرار، وتعطّل الحركة اليومية، خلقت بيئة طاردة للاستثمار، وأضعفت ثقة التجار وأصحاب رؤوس الأموال في أي توسع أو مبادرة جديدة.

كما أدّت هذه الأوضاع إلى تعطيل متكرر للعمل والتعليم، وزيادة الخسائر غير المباشرة على مختلف القطاعات، خاصة الزراعة والنقل والخدمات.

رواتب الموظفين العموميين: استقرار هش لا يكفي

تضم محافظة جنين نسبة عالية من الموظفين العاملين في القطاع العام، ما يجعل الرواتب الحكومية عاملاً مهماً في الحفاظ على حد أدنى من الحركة الاقتصادية. إلا أن عدم انتظام صرف الرواتب، أو صرفها منقوصة في كثير من الأحيان، جعل هذا الدور محدود التأثير.

فالرواتب، في وضعها الحالي، لم تعد قادرة على تعويض فقدان مصادر الدخل الأخرى، بل تحولت من عنصر تحفيز اقتصادي إلى وسيلة لتأجيل الانهيار الكامل للأسواق.

دور الحكومة الفلسطينية: تدخل محدود أمام أزمة عميقة

رغم إدراك الحكومة الفلسطينية لحجم التراجع الاقتصادي في جنين، إلا أن تدخلاتها بقيت محدودة الأثر. فلم تُطرح برامج إنعاش اقتصادية خاصة بالمحافظة، ولم تُخصص حزم دعم استثنائية للتجار أو العمال المتضررين، كما غاب التخطيط طويل الأمد لمواجهة تبعات الحصار والانكماش.

يقتصر الدور الحكومي حتى الآن على إدارة الأزمة وليس معالجتها، في ظل قيود مالية وسياسية معروفة، إلا أن غياب المبادرات الإبداعية والشراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المحلي زاد من عمق الأزمة.

يمرّ اقتصاد محافظة جنين اليوم بمرحلة هي الأصعب منذ سنوات، نتيجة تزامن فقدان مصادر الدخل الرئيسية مع واقع أمني خانق وتدخل حكومي محدود. واستمرار هذا الوضع دون حلول جذرية ينذر بمزيد من التدهور الاجتماعي والاقتصادي، ما يستدعي رؤية وطنية شاملة، تضع جنين في صلب أولويات الإنعاش الاقتصادي، لا باعتبارها عبئاً، بل كمنطقة تملك طاقات بشرية قادرة على النهوض متى توفرت لها الحد الأدنى من الاستقرار والدعم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى